مثقفون لـ الشرق : إتقان توظيف الموروث سر الإبداع
الشرق -
ثقافة وفنون

20

21 يوليو 2024 , 07:00ص

❖ هاجر بوغانمي

منذ الإرهاصات الأولى للنهضة الفنية والعمرانية في قطر، ثابر المبدعون القطريون في الاستلهام من الموروث الثقافي عناصرَه المادية وغير المادية، وقاموا بتوظيفها بشكلها المرئي وكذلك بصورتها الذهنية التي تشكلت من خلال ما كان يُروى، فالمشتغل في المسرح عكس عناصر التراث الثقافي في النص والعرض المسرحي.. والفنان التشكيلي جسد بريشته عناصر من بيئته وموروثه الثقافي فتجلّت في لوحاته بأساليب فنية مختلفة، وكذلك المعماري، والمصور الفوتوغرافي وغيرهم. حتى بدا الأمر أقرب الى النوستالجيا، ثم ما لبث أن تحول لدى البعض الى موقف من الحداثة، أو لعله انتصار للذات في وقت ظهرت فيه العولمة بهدف تشتيت الهويات وتشويهها.  في المقابل، انحاز فريق من المبدعين الى حتمية التقدم والرقي فاستخدموا مواد من التراث الثقافي في أعمال حديثة لإبراز الخصوصية المحلية والتأكيد على أنها - أي الخصوصية - لا تقصي الآخر بل تنصهر فيه، وقد سمى البعض ذلك اغترابا. وهنا يلح علينا السؤال: هل الإرث الثقافي مرجعية أم أداة يتوسل بها المبدع للتعبير عن موقف من الحداثة؟ طرحنا السؤال على عدد من النقاد والباحثين.. فكانت هذه آراؤهم.

أحمد عبدالملك:  المبدع يُعبّر عن الحالة الثقافية دونما ضرورة أن يقرن ذلك بالحداثة

قال الأكاديمي والروائي الدكتور أحمد عبدالملك: الإرث الثقافي مرجعية في المقام الأول، ويعتمد على اللغة في مخرجاتها المتعددة، وأنواع استعمالاته في المجالات المختلفة، ودون هذا الإرث وهذه المرجعة لا تكون لأي شعب من شعوب العالم أية حضارة أو هوية. والإرث الثقافي هو الحاضنُ لممارسات الشعوب وطرائقَ تفكيرهم وأساليب حياتهم، كما أنه السجل الأمين لمظاهر حياة الشعوب في أية بقعة جغرافية من العالم. ولا يمكن أن أعتبر سعيَ المبدع أو المؤرخ لتسجيل حياة الشعوب، توسّلاً؛ لأنه في المقام الأول يؤمن بحتمية وجوده ووجود مَن حوله من بشر ومواد الجغرافيا والتاريخ، وأعني التراث المادي واللامادي، لذا، فإنه يُعبّر عن الحالة الثقافية، بكلّ أبعادها ومستوياتها، دونما ضرورة أن يقرن ذلك بالحداثة، وما تفرضهُ من أدبيات وسجالات في العصر الحديث.

وأضاف: الحداثةُ شيءٌ والإرثُ الثقافي شيءٌ آخر، رغم التقائهما في بعض المساحات، ولكن لا يمكن أن أعتبر أن سعي المبدع لحفظ نماذج ثقافته وإرثه الثقافي على أنه نوع من التوسل أو حتى التعبير عن الحداثة. وقد يجرّنا الحديثُ عن الحداثة إلى وظائف الثقافة، وحتميات الواقع السياسي لأي بلد، فهل نحن نسعى إلى توظيف أُطر الثقافة – بما فيه الإرث الثقافي – في دعم سياسات الدولة، أي دولة، وبما يُعرف الآن بـ «القوة الناعمة»، فهنا يجب أن نؤمنَ بحتميةِ الانفتاح والتشابك الثقافي على مستوى العالم، وأيضاً يكون هنا الإرث الثقافي أداةً فاعلة في التفاعل الأممي وليس في «التسول الثقافي».

محمد البلوشي: التعامل مع التراث من موقف حركي يساهم في تطوره

قال الأستاذ محمد سعيد البلوشي الباحث في التراث: يمثل التراث الثقافي الهوية الوطنية للأمم، وهو السجل الثقافي الذي يستوعب ثقافة الشعب ويوثقها بكل ما تتضمنه من عادات وتقاليد وممارسات دينية ودنيوية. وتساءل عن حدود المبدع في الخروج على المادة التراثية، وعن جوهر الصدق في الإبداع الفني، مضيفا: هل الكاتب ملتزم بالتراث كما هو؟ أم أن له الحق في رؤية التراث كما يناسب تفكيره؟ فالمبدع ليس محققاً أو مصنفاً للتراث أو ناقلاً للمادة التراثية. ولتحقيق مصداقية التراث لا بد أن يكون المبدع في حالة وعي تام باللحظة التراثية التي أبدع فيها.

وأشار الى أن التعامل مع التراث ليس مصدره الماضي، وإنما نتعامل معه من موقف حركي يساهم في تطور التراث وتغيره. وأكد أن عملية استلهام التراث يخضع لقدرات الفنان في الاستلهام لأنها مسؤولية الفنان الذي يقتبس عناصر أو موضوعات من التراث يجب توظيفها تبعاً لوظيفتها الأساسية وذلك لابراز دلالاتها وأصالتها في التراث. مشيرا الى أن ظاهرة الاستلهام بدأت تتنامي يوماً بعد يوم لارتباط المبدعين بتراثهم العريق والأصيل.

د. زكية مال الله: التجديد إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر

قالت الكاتبة والشاعرة الدكتورة زكية مال الله: الإرث الثقافي هو كل ما ينتقل عبر الأجيال من عادات وتقاليد وآداب وفنون وعلوم، ويشتمل على الفنون الأدبية مثل الشعر والقصة والحكايات والأساطير والأمثال والغناء والموسيقى والمعالم التاريخية والمنحوتات والمباني والمواقع الأثرية، وكذلك الصور والوثائق والكتب والمطبوعات والعادات الشعبية. وهو يمثل الذاكرة الحية للفرد والمجتمع، وبه تفرض الأمة وجودها وتثبت ذاتها وتحقق هويتها وترسخ انتماءها وترتكز عليه في بناء نهضتها وتستمد منه البقاء لأصالتها وجذورها التاريخية واستمرار حيويتها وقدرتها على مواجهة الأحداث، لذلك يعد التراث عنصرا مهما في ثقافة البشرية وضرورة للمحافظة على الثقافة الوطنية وتأصيل الحاضر والمشاركة في القضايا الاجتماعية المتغيرة. أما التجديد والتحديث فهو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر والمعطيات التي يفرضها الواقع للتطوير بما يتفق مع متطلبات الأفراد. لذلك فإن التراث مرتبط بالواقع وتغيراته وليس له وجود مستقل عنه. وحيث إنه يعبر عن روح العصر ومرتبط بتاريخ البشرية والحضارات والحرب والنزاعات فإنه مرجعية لاستنطاق الوعي الانساني ومراحل التطور التي شهدتها الشعوب كما إنه اللغة المشتركة للتواصل الثقافي المثمر.

د. حسن رشيد: هذا السؤال في حاجة إلى دراسة سوسيولوجية

قال الناقد الدكتور حسن رشيد: هل نتحدث عن مجتمع يحمل إرثا ثقافيا متميزا أم مجتمع لا يحمل هذا الإرث؟ هل الحديث في هذا الموضوع عن مجتمع مصري أم عراقي أم مجتمع بلاد الشام أم مجتمع المغرب العربي أم نحن نتحدث عن مجتمع حديث يحاول أن يحفر في الثقافة العربية، ويحمل لغة حداثية؟ هل هذا المثقف والمبدع يحاول أن يحفر لغة حداثية في مجتمعه ويحاول أن يجد له موطىء قدم؟ هذا هو السؤال الذي نحاول من خلاله أن نستنطق الواقع ونجد لغة نعبر من خلاله عن موقفنا من الحداثة..

مضيفا: أعتقد أن هناك بالنسبة الى منطقة الخليج لغة للمخاطبة في مجتمع يختلف عن مجتمع آخر. لا يمكن أن نقارن المجتمع العماني بإرثه الثقافي الممتد في التاريخ والمجتمع البحريني بإرثه الثقافي من حضارة دلمون وأوال وتايلوس بمجتمع آخر. حتى بالنسبة الى المملكة العربية السعودية فإن الإرث الموجود في الحجاز يختلف عن الإرث الموجود في الرياض. لذلك هذا الإرث الثقافي يختلف من مجتمع الى آخر، واللغة لها دورها الحضاري. أعتقد أن هذا السؤال يحتاج الى دراسة سوسيولوجية، وأعتقد ايضا أن هذا الأمر سوف يأخذ منا جهدا كبيرا حتى نستطيع أن نجد جذورا ترتبط بواقعنا الحالي ونجد ما يوافق في إطار نستطيع من خلاله أن نصل الى واقع قد يقربنا من الحضارة التي نبحث عنها.

طالب الدوس: الحداثة إن تعالت أو تطاولت على الموروث تصبح هدما

قال الكاتب والسيناريست طالب الدوس: يرتبط الارث الثقافي بالانسان في مجتمعه وفي حدوده الاقليمية، وهو في ذاته يعبر عن هوية تاريخية وثقافية، وتتناقله الأجيال كمضمون أساسي يعبر عن كيانها ونسيجها. غالبا حينما تتصادم ثقافات المجتمع مع الثقافات الواردة يكون التراث الثقافي حاضرا للاستحكام بقبول الظواهر أو الثقافات الجديدة المستحدثه، من خلال ذلك يمكن وضع الإرث الثقافي في إطار المرجعية الدستوريه الدائمة، وبالطبع فإن أي مرجعية تحتاج الى كيان لغوي يحافظ على تلك الهوية من خلال لغة لها وعي وإدراك تجتمع حولها حالة الفهم لدى المجتمع. ولعل المبدع يعتمد في هذا السياق على التراث الثقافي في استحضار الماضي لمعالجة قضايا في الحاضر، لينقلها أو يمنع نقلها الى المستقبل. وهذا الاستحضار أحيانا يكون عقلانيا واحيانا عاطفيا، فدلالة الموروث لدى بعض المجتمعات ترتبط بالعاطفة، لكن العاطفة اللاواعية او البعيدة عن المنطق لدى المجتمع الذي تخلص من التبعية العمياء، لا تنتصر للعاطفة في الغالب، اذاً نحن اليوم نواجه تغريبا وغربة على مستوى العاطفة الجمعية التي تتضارب مع الهوية التي ترتبط مع التراث الثقافي. وأشار الى أن أجيالا جديدة لم تعش ظروف تكوين وتاريخ هذا التراث، تجدها مضطربة أو متضادة مع هذا التراث الثقافي، وتميل للحداثة، وتعتبرها مقبولة على الأقل في مجتمع الشباب، لكن الحداثة إن تعالت أو تطاولت على الموروث، تصبح هدما. وتابع: إذا كان على المبدع أن يستنطق لغة التراث وأدواته وجمالياته البصرية والفكرية، لابد أن يكون الواقع وظروف هذا الواقع حاضرة ذهنيا لدى هذا المبدع، ويطابق أحداث الواقع بذلك الإرث الذي يستحضره، وعلى المبدع أن يكون واعيا بأن استنطاق التراث واستحضاره ليس من أجل مداعبة عواطف الآباء، لأن الجيل الجديد لن يكون حاضرا بوجدانه في حياة لم يعشها، لذلك يجب أن يحتوي الاستحضار محاكاة واقعية وعقلانية لمفهوم الحداثة حتى يمكن تجاوز الغربة الفكرية لدى الجيل الحالي أو القادم.

اقرأ المزيد

مساحة إعلانية



إقرأ المزيد