الحكَّاء (45) | عناقيد الكتابة
الجزيرة -
(1)

"استنفدت العائلات القادمة من الولايات الأخرى كل مواردها لتصل إلى هنا، باعوا حتى الأواني والبطاطين وكل ما يملكونه؛ للحصول على الوقود والوصول إلى كاليفورنيا؛ للفوز بعمل يمنحهم أجرًا للطعام، بعدما هربوا من عواصف الجفاف".

"لقد أُهدرت كرامة الجميع هنا، وتحوَّلت أرواحهم إلى سحائب غضب مكتوم، توشك أن تموت، خسر الكثيرون أحبَّاءهم، وفقدت الكثير من الأمهات أطفالهن؛ لأنهنَّ لم يجدن طعامًا حتى يستطعن إرضاع أطفالهنَّ".

ربما لم تقرأ هذه الرواية بأحداثها الحقيقية، لكنك بالتأكيد سمعت عنها؛ عناقيد الغضب.

(2)

صبيحة أحد أيام يونيو/حزيران 1936، وداخل مبنى جريدة سان فرانسيسكو ذات التوجُّه الليبرالي، دخل جون شتاينبك إلى مكتب محرر صحيفة سان فرانسيسكو جورج ويست؛ ليبلغه عن المهمة الجديدة التي يرغب في أدائها، وهي السفر إلى مواطن العمال المهاجرين، ومحاولة معرفة أوضاعهم القاسية التي يعيشونها.

يصل شتاينبك إلى مقاطعة كيرن، ثم ينطلق بعدها إلى معسكر أرفين، ويقابل هناك مزارعين سمع منهم ما يكفي من التفاصيل، فبعضهم أخبره بأن الأعمال المتاحة -عادة- هي جني المحاصيل في مقابل ما تحصل به على وجبة، في حين كان بعض أصحاب الأراضي يتعاملون معهم بتعنُّت من نوع آخر؛ حيث إن العقوبة المجهزة دائمًا هي طرد العمال بعد نهاية العمل من دون منحهم أي أجر.

يقضي شتاينبك عدة أيام يتحرَّك بين العائلات المقيمة في تلك الخيام، يتحدث معهم، ويسمع منهم ما يقصُّونه بالتفصيل، ويمسك قلمه ويدوِّن -بشكل جنوني- كل تفصيلة يسمعها منهم، كما هي من دون الحاجة إلى صياغات بلاغية صعبة، فما حكاه العمال والمزارعون كان مؤلمًا بما يكفي لتكون لديه القصة التي يبحث عن كتابتها.

ينشر شتاينبك 6 مقالات مطوَّلة عمَّا يحدث في معسكرات المزارعين، وما يلاقونه من أصحاب الأراضي، ويكشف البشاعة والظلم اللذين يجريان فيها، لكن نفسه التوَّاقة لم تَقنع بهذا الدور، وأرادت شيئًا أكبر.

الكاتب الأميركي جون شتاينبك مؤلف رواية عناقيد الغضب حصل على جائزة نوبل في الأدب 1962 (غيتي)
(3)

في مارس/آذار 1938، يبدأ جون شتاينبك كتابة روايته حول حكاية إحدى الأسر التي قابلها في ملاجئ مقاطعة كيرن، مستمدًا أحداثها من شهادات المزارعين الذين عاصروها، ليشكل منها حكاية عائلة "جود" التي دارت حولها الرواية.

بعد أيام قلائل من بداية الكتابة يرسل إلى وكيلة أعماله يخبرها بأنه قد بدأ العمل في الرواية، ويقول لها "المعاناة هناك ضخمة وبشعة، هذا أكثر شيء مُفْجع في العالم؛ الألم يعتصر قلبي كلما سمعت أن جهد شخص واحد لا يكفي لإنقاذ هؤلاء البشر، هذا لا يُشبه أن تقابل مجموعة من الأطفال الجوعى وأنت تملك في جعبتك القليل من المال، ما يحدث هناك لا يمكن تبريره بأي حال، أريد أن أُلصق العار والفضيحة بأولئك الجشعين المسؤولين عن ذلك".

يصل الأمر إلى المباحث الفدرالية الأميركية التي تقرِّر وضع شتاينبك تحت المراقبة فترة من الزمن، كما قاطعه كثيرون ممن يعرفونه في مسقط رأسه، ويمتنعون عن التعامل معه

(4)

تجري الأحداث في ثلاثينيات القرن الماضي، بالقرب من الساحل الغربي للولايات المتحدة الأميركية قبل أن تصبح أميركا التي نعرفها في الوقت الحالي، كثير من الولايات في ذلك النطاق مهجورة ممتلئة بالصحراء والرمال.

لقد اختفى السكان الأصليون من معظم الولايات ليحل محلهم مهاجرون بدؤوا التوافد من دول أوروبا وغيرها، عبر سفن هجرة ضخمة في وقت قصير؛ طامعين في أن تكون أرض أميركا الفارغة الخصبة تربة للرزق والثراء الذي يبحثون عنه، بعد ما سمعوا عن كاليفورنيا أنها أرض الذهب، وبإمكانك أن تسير في الشارع وتجد قطعًا من الذهب تحت أقدامك.

في الوقت نفسه، كان الجفاف والعواصف الرملية ضربت محاصيل المزارعين في ولايات أوكلاهوما وغرب ميسوري وأركنساس، لتتركهم في حالة صعبة من الفقر، وقرروا إثرها الارتحال إلى كاليفورنيا؛ بحثًا عن عمل في الحقول، أو فيما يمكن أن يحصلوا به على الطعام وبعض المال.

كانت النتيجة التي وجدها المهاجرون من الخارج والمزارعون أمرًا آخر غير ما سمعوا وتوقعوا؛ فالكساد العظيم يضرب العالم بكافة جنباته، وأميركا على رأسه، لقد خاب ظنهم وجهدهم جميعًا، ولن يكون بإمكان أي مهاجر سوى أن يحصل على وظيفة استعبادية بما يكفي ليحيا فقط، أو لنقُل: ما يكفي قوت يومه في أفضل الأحوال.

أما عن الذين بحثوا عن أعمال في الزراعة فقد وجدوا ظروفًا تعسفية وقاسية من أصحاب الأراضي الذين عاملوهم على أنهم حثالة جاءت تأكل أموالهم، فحصلوا على العمل بصعوبة، وكانت الأجور بالكاد تكفي وجبة أو اثنتين خلال اليوم.

تَشكَّل في ذلك الوقت ما يشبه معسكرات العمال، بجانب المزارعين الذين يعيشون فيها بالفعل، والذين تحوَّلت حياتهم جميعًا في وقت قصير إلى ترحال وتنقُّل من مكان إلى آخر؛ بحثًا عن مكان مستقر للطعام أو العمل أو الزراعة.

(5)

يحدِّد شتاينبك لنفسه مدة 100 يوم فقط لإنهاء الرواية التي سيحكي فيها كل شيء، آملا أن يُلصق العار بهؤلاء، وحدَّد لنفسه كتابة 10 آلاف كلمة كل أسبوع؛ حتى يستطيع الانتهاء من الرواية في أسرع وقت ممكن.

يتغلَّب على مشاعر الإحباط التي انتابته؛ خوفًا من ألا يكون ماهرًا كفاية لتأليف تلك الرواية التي تستحق أن تُروى.

وفي يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول يكتب في مذكراته "أشعر بأن رأسي ينهار وعينيَّ تريان بالكاد، أخيرًا انتهت الرواية، أتمنى أن تكون جيدة بما يكفي".

تُنشر الرواية لتكون بمثابة شعلة من النيران، وتنتشر كالهشيم في كاليفورنيا، ويُباع منها أكثر من 430 ألف نسخة، ليصبح عرش أثرياء الولاية مُهددًا، فيقررون الانتقام -بأي صورة- من شتاينبك.

يُعلن اتحاد الفلاحين الذي يمتلكه أثرياء الولاية أن الرواية ما هي إلا كتلة من الأكاذيب الملفَّقة، ويقررون حرقها في الساحات العامة أمام الفلاحين والعمال؛ باعتبار كاتبها شيوعيًّا محرضًا على الدولة، في حين قررت بعض المؤسسات الحكومية حظر امتلاك الرواية، وحظر نشرها أو تداولها.

يتسرب الخوف إلى قلب شتاينبك؛ فصحيح أن الرواية -وللمفارقة- حوَّلته إلى واحد من أغنى كتَّاب الروايات في ذلك الوقت، إلا أنه صار متخوفًا من أن يأتي اليوم الذي يضطر فيه إلى حمل سلاح ناري؛ لحماية نفسه من تهديدات القتل.

(6)

يصل الأمر إلى المباحث الفدرالية الأميركية التي تقرِّر وضع شتاينبك تحت المراقبة فترة من الزمن، كما قاطعه كثيرون ممن يعرفونه في مسقط رأسه، ويمتنعون عن التعامل معه.

بنهايات عام 1940، تتحول الرواية إلى فيلم سينمائي، وينجح في تحقيق أرباح خرافية، وينال إعجاب كثيرين وقتها، ويحصد عدة جوائز للأوسكار.

لقد تغيرت حياة شتاينبك ليصبح أشهر روائي أميركي -تقريبًا- في تلك الفترة، ويكتب بعدها عدة كتب وروايات.

ألم أخبركم: لا قوة تهزم الكلمة الصادقة؟



إقرأ المزيد